أخبار وطنية

الجديدة… المدينة التي لا تكتمل

بقلم: [إدريس زباير]

 

مدينة الجديدة، تلك التي تتكئ على ذاكرة البحر وأعمدة التاريخ البرتغالي، تفتح اليوم عينيها على واقع تنموي يزداد تعقيداً، وتطرح بصمت أسئلتها الموجعة على من بيدهم القرار. فعلى الرغم من موقعها الساحلي المتميز، وقربها من أكبر الأقطاب الصناعية بالمغرب، ما تزال هذه المدينة تسير بخطى مترددة نحو التنمية الشاملة، وكأن الزمن يمضي من حولها وهي عالقة في عنق زجاجةٍ اسمها “الانتظارية”.

من يقصد الجديدة لأول مرة، قد يخدعه جمالها الظاهري؛ شارع النخيل المزهر بأشجار النخيل، المدينة البرتغالية التي تحرسها الأسوار العتيقة، وشاطئ دوفيل الذي يختصر لحظة رومانسية بين الرمل والموج. لكن من يقيم بها، أو يتجول في أحيائها الهامشية، يكتشف سريعاً أن تحت هذا الجمال قشرة رقيقة تُخفي تشققات عديدة: بنية تحتية مترنحة، تفاوتات صارخة، وخدمات عمومية لا تواكب الطفرة الديمغرافية التي عرفتها المدينة في العقدين الأخيرين.

فالجديدة، التي كانت حتى الأمس القريب مدينة صغيرة بتعداد سكاني محدود، استقبلت خلال السنوات الماضية موجات هجرة داخلية ضخمة، سواء من القرى المجاورة أو من مدن أخرى، بفعل توسع المنطقة الصناعية الجرف الأصفر وبحث الآلاف عن فرص شغل. غير أن هذا التحول السكاني لم يُرافقه تجهيز عمراني ولا تخطيط مجالي محكم، بل جاءت الأحياء الجديدة، كحي النجد والسلام والغزوة وغيرها، لتفضح محدودية رؤية التوسع الحضري؛ طرق ضيقة، غياب المساحات الخضراء، ضعف المرافق العمومية، وكأن المدينة تنمو بغير قلب.

اقتصادياً، لا تزال الجديدة تعتمد بشكل مفرط على قطب الصناعات الكيماوية والميناء الصناعي، في غياب تنوع اقتصادي حقيقي. فرغم مؤهلاتها الفلاحية والبحرية والسياحية، لم تُخلق بعد رؤية متكاملة للاستثمار في هذه القطاعات. والسياحة، وإن عرفت بعض الانتعاش الموسمي، تظل محكومة بعشوائية في التدبير، دون استراتيجية واضحة لاستقطاب السياح طيلة السنة، أو لإحياء الموروث الثقافي الغني الذي تزخر به المدينة ونواحيها.

أما الجانب الاجتماعي، فيحمل في طياته تعقيدات لا تخفى على العارفين بخبايا المدينة. نسبة البطالة بين الشباب مرتفعة، لا سيما في صفوف خريجي الجامعات والتكوين المهني، في ظل قلة المشاريع الاقتصادية المهيكلة. والمشهد الصحي يعاني بدوره من خصاص كبير في التجهيزات والأطر، إذ يئن المستشفى الإقليمي محمد الخامس تحت وطأة الاكتظاظ وقلة الموارد، بينما تضطر العديد من الأسر إلى التنقل نحو الدار البيضاء بحثاً عن العلاج.

البيئة بدورها تدفع الثمن. فرغم أن المدينة تنفتح على واجهة بحرية واسعة، فإن شواطئها لم تسلم من التلوث بفعل مياه الصرف الصناعي والبيئي التي تصب في البحر دون معالجة كافية. والمفارقة أن المدينة التي تستمد جزءاً من هويتها من علاقتها بالبحر، تجد نفسها اليوم في مواجهة خطر بيئي يهدد ثروتها البحرية ويحد من جاذبيتها السياحية.

وفي قلب كل هذه التحديات، تلوح أزمة الحكامة كالعنوان الأبرز للإشكال. مشاريع تنطلق دون دراسات جدية، أوراش تتوقف دون تبرير، وقرارات تنزل من فوق دون إشراك فعلي للمواطنين. الديمقراطية التشاركية، التي بشّر بها الدستور، ما تزال تتعثر في واقع جماعي يهيمن عليه المنطق الموسمي والارتجالي، في غياب رؤية تنموية موحدة تضمن استمرارية السياسات العمومية بعيداً عن الحسابات الانتخابية الضيقة.

ورغم كل هذا، لا تزال الجديدة تحتفظ ببريقها الخاص، بقدرتها العجيبة على المقاومة، وبأناسها الذين يحبونها بصبر وشغف. مدينة بوسعها أن تكون قطباً جهوياً مشرقاً، لو أُحسِن توجيه استثماراتها، وتفعيل مؤهلاتها، ورفع صوت سكانها في دوائر القرار. فالجديدة لا تحتاج إلى معجزات، بل فقط إلى التزام حقيقي، وحكامة رشيدة، ونظرة بعيدة تنقلها من واقع المراوحة إلى أفق البناء الفعلي.

حتى ذلك الحين، سيظل البحر يعانق أسوارها القديمة، وستظل الأمواج تردد، كل مساء، أسئلة التنمية المؤجلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى