مسرح عفيفي بالجديدة يحتضن الدورة 17 للاحتفاء بالأغنية التراثية بدكالة تحت شعار : صدى الماضي ونبض الحاضر

بقلم : نورالدين لماع
استحضار الإرث الفني للراحلة فاطنة بنت الحسين :
فاطنة بنت الحسين.. أسطورة العيطة وأيقونة الفن الشعبي في المغرب ؛
ولدت فاطنة بنت الحسين في منتصف الثلاثينات بمنطقة سيدي بنور، التابعة لاقليم دكالة، من عائلة قروية محافظة رفضت ولوجها مجال الغناء، نظرا للسمعة السيئة التي كانت ملتصقة بـ”الشيخة” وقتها.
انتقلت فاطنة إلى مدينة اليوسفية، وهناك انضمت إلى فرقة “الشيخ المحجوب”، وزوجته الشيخة العبدية ، لتحصد شهرة واسعة وصل مداها إلى مدينة آسفي، معقل العيطة الحصباوية، وبعدها مدينة الدار البيضاء، معقل المرساوي ، لتلتحق بعدها بفرقة ولاد بن عكيدة ، التي سجلت معها أكثر من 200 أغنية بين قصائد وبريويلات .
المسار الفني للراحلة فاطمة بنت الحسين .
عاشت فاطنة بنت الحسين طفولة صعبة، كانت يتيمة فتكفلت أختها بتربيتها، لكن فاطنة ستقرر الهروب من آسفي وعمرها 14 سنة، وهكذا ستكون بداية قصتها مع فن العيطة الذي اكتشفته في سيدي بنور وأزمور، وفي أسفي ثم لاحقا في مدينة الدار البيضاء. وبفضل لقاءاتها المتعددة والتكوينات الموسيقية، حققت فاطنة بنت الحسين نجاحا كبيرا وأحبها الجمهور.
على امتداد نصف قرن، قدمت فاطنة بنت الحسين أزيد من 200 أغنية من الريبرتوار الشعبي، وهي واحدة من رواد فن العيطة الذي كان له حضور وازن وقوي، وشقت طريقها بمفردها بعد أن تحدت نظرة المجتمع ومعارضة أسرتها.
وفي لقاء للجريدة مع الفنان بوشعيب الجديدي حكى في بدايات سيرة حياته الفنية، وكيف عاش مكرها طفولته بعيدا عن والدته حفيظة بنت محمد الدعباجي (رائد العيطة الحصباوية) وحكايات ذات الصلة بموقف والده من متابعة دراسته وموقفه الشخصي من الفن والموسيقى التي سحرته.
الطفل الذي سحرته موسيقى فن العيطة بأرض الحصبة ؛
في مرحلته الطفولية، كان الفنان بوشعيب الجديدي مواظبا على مرافقة المرحومة والدته حفيظة بنت محمد لأرض الحصبة بمجال إقليم آسفي، عند جده رائد العيطة الحصباوية الراحل الشيخ محمد الدَّعْبَاجِي. وكان الطفل بوشعيب منبهرا وحريصا على متابعة وحضور الجلسات الفنية في إطار التمارين التي كان يقيمها جده بمنطقة عبدة، حيث يتابع بجدية ويلاحظ مداعبة أنامل الشيخ الدَّعْبَاجِي وهو يعزف على آلة الْكَمَنْجَةْ بالقوس، وفي نفس الوقت يلتقط بأذنيه نقر إيقاع الطَّعْرِيجَة، ويحلق بجسده الطري مع أصوات شيخات وشيوخ العيطة العبدية التي سحرته.
الموسيقى والغناء شكّلا بالنسبة للطفل بوشعيب الجديدي مدرسة الحياة الأولى التي ولج لفضائها الشاسع والممتد من باب رائد العيطة جده من أمه حفيظة بنت محمد، لذلك لم يكن يهتم بالدراسة والتحصيل التعليمي في مرحلة الابتدائي مقابل انجذابه نحو الموسيقى والغناء، خصوصا حين قدر الله على والديه الطلاق، واستقر مع والده الملقب بـ “الطْرَابْشِي” رغم إحساسه بعذاب فراق حضن الوالدة والحنين إليها وهو مازال برعما يحتاج للرعاية.
الحنين إلى الموسيقى كتعويض عن فراق الأم ؛
كان أطفال الحي بدرب البركة شارع الزرقطوني بمدينة الجديدة يلعبون ويلهون في الأزقة وينادون بأسماء أمهاتهم كلما عدنا من المدرسة، وكنت أشعر بالحنين لفراق أمي وطلاقها من الوالد (الطْرَابْشِي)، وكنت أحس بالغربة والوحدة في غياب جناح للتحليق نحو أفق السعادة والفرحة…كنت حزينا جدا لغيابها، يقول الفنان بوشعيب الجديدي بضمير الطفل الفاقد للحنان آنذاك ويضيف قائلا : كنت أشعر بالحزن أثناء محاولات عطف نساء الحي عليّ، وكُنّ يثرن حفيظتي لمّا يحاولن إثارة مشكل طلاق أبي وأمي…لقد أثّر الطلاق نفسانيا وعاطفيا على طفولتي.
– سحر صوت “النّاي” الحزين
كسائر أطفال الحي كان “الطْرَابْشِي” رحمه الله يمنح العطف والحنان قدر المستطاع لابنه بوشعيب مثل جميع الآباء، ولا يتردد في تلبية مطالبه وحاجاته في الّلعب، حيث استحضر في هذا السياق واقعة حكاها بقوله : خلال إحدى مناسبات الاحتفال بعاشوراء، رافقت والدي لشراء لُعبي مثل سائر أطفال حَيِّنَا، ولم أتردد في التشبث بإصراري على شراء لعبة آلة ناي قَصَبِيَةْ (الِّليرَةْ) من عند أحد العطّارين وأخرى بلاستيكية من عند بائع لُعَب عاشوراء.
من هنا تسلّلت مقامات عشق الموسيقى في الباديات الأولى بواسطة النَّايْ التقليدي لقلب الطفل بوشعيب خلال عاشوراء، حيث اختار أوقات التعامل مع آلته الموسيقية على سطح البيت، وكان صوت النّاي الحزين يخفف من ألم فراق الأم حفيظة: صوت الناي الحزين عوضني عن ألم الفراق، وأصبحت آلتي الموسيقية {نَايْ الْقَصَبْ} تؤنسني في وحدتي، بل احتلت مكانة خاصة في قلبي و وجداني . يوضح الفنان .
خلال مدة قصيرة تمكن الطفل بوشعيب من ضبط أنامله وتحريكها بمقاييس محكمة وفق مقامات لم يكن يعرف معناها وهو ماسك بـ “الِّليرَةْ” وينفخ فيها روح الحياة الحزينة. وشاء القدر أن يتعرف في هذه اللحظة على المدعو (سِّي قَبُولْ) رحمه الله، وهو بالمناسبة “سِيكْلِيسْ” متخصص في إصلاح وكراء الدراجات الهوائية للراغبين في تعلم سياقتها، والذي كان محله يتواجد تحديدا بالقرب من المحكمة بمدينة الجديدة، لكن هذا الرجل كان يجيد العزف على آلة “الْـﯕَصْبَةْ” ويخرج من أحشائها مقاطع جميلة من غناء نمط السَّاكَنْ “الْحَضَّارِي” أو ما يسمى بموسيقى “جِيلَالَةْ”.
كان بوشعيب الجديدي مهووسا بكراء الدراجات الهوائية من عند (سِّي قَبُولْ) بسعر لا يتجاوز آنذاك (20 سنتيم) لقضاء أوقات ممتعة بالقرب من الشاطئ في معاكسة ومغازلة الرّيح التي تعبث بملابسه وشعره وهو يقود الدرّاجة الهوائية بسرعة جنونية، وكأنه يسابق الزمن للبحث عن أشياء ثمينة ضاعت منه دون إرادته.
في نفس الوقت كان ينتهز الفرصة بعد انتهاء مدة كراء جولة السياقة للاستمتاع بما يعزفه (سِّكْلِيسْ سِّي قَبُولْ) من تقاسيم موسيقية ومقطوعات أغاني شعبية وخصوصا نمط “السَّاكَنْ الْحَضْرَةْ”. في هذا السياق سيتمكن الطفل بوشعيب الجديدي من أخذ آلة “الْـﯕَصْبَةْ” من صديقه (سِّي قَبُولْ) لتعلم العزف عليها في بيت والده، حيث كان حريصا على صيانتها والمحافظة عليها، والتعامل معها كشيء ثمين وإعادتها لصاحبها كلما احتاج للعزف.
الرائد بوشعيب الجديدي خُلِقَ فنانا موسيقيا
يتذكر الفنان بوشعيب الجديدي معلم اللغة العربية، الأستاذ أبا تراب رحمه الله، وهو يتابع دراسته يومئذ في المستوى الخامس ابتدائي
{الشهادة} حسب النظام التعليمي آنذاك حيث تم اختياره رفقة صديقه عبد الله بستاني للمشاركة في احتفالات عيد العرش وأداء أغنية {فِي قَلْبِي جُرْحْ قْدِيمْ} للفنان عبد الهادي بلخياط، على اعتبار أن التلميذ بوشعيب الجديدي سيعزف المقطوعة على آلة “النّاي” وصديقه سيؤدي القطعة غنائيا. ويتذكر أيضا أن معلمه أبا تراب كان يقول له أمام التلاميذ: “أنت خلقت للفن وستصبح في يوم ما فنانا كبيرا.
تشاء الصدف أن رئيس الجوق الموسيقي الوحيد بمدينة الجديدة يومئذ هو أخ التلميذ عبد الله بستاني صديق الطفل بوشعيب، حيث سيتم اختياره كعازف على آلة النّاي ضمن أفراد ذات الجوق الموسيقي، مع العلم أن آلة “النّاي” التي كانت بحوزة الفنان بوشعيب الجديدي مجرد “جَعْبَةْ” من مادة الحديد.
لم أكن أتوفر على مختلف أنواع النايات المستعملة للعزف، لا (نَوَا)، ولا (دُوكَا)، ولا (كُرْدْ)، ولا (سِي) ، يوضح الفنان بوشعيب الجديدي بحكم أن قانون موسيقى الناي يحتوي على مجموعة من أنواع النّايات وهي مرتبة من واحد إلى سبعة، بمعنى أنه من الضروري أن عازف الناي لابد أن يكون حائزا على سبعة نايات لكل واحدة منها مميزات خاصة على مستوى النوتات الموسيقية المطلوبة لعزف مقطوعة غنائية معينة.
طفل فنان يرفض أن يعيش في جلباب أبيه
نمت مدارك الطفل بوشعيب الموسيقية بشكل عصامي معتمدا على نفسه، وتطور عزفه بشكل رهيب، لكنه لم يقتنع بما يتحوز من آلة “النّاي” فقرر السّفر للدار البيضاء وتحديدا بجامع الشّْلُوحْ المعروف وطنيا لشراء آلة ناي تكون في مستوى علو كعبه الموسيقي. لكن عند عودته لمدينة الجديدة فرحا مبتهجا للبيت وانطلاقه في العزف كعادته، صدم برد فعل والده “الطْرَابْشِي” الذي كسّر الآلة الموسيقية بشكل جنوني أمام عينيه الذي فضّل الموسيقى عن متابعة دراسته والاهتمام بها.
لم أعرف سبب رد فعل والدي، هل كنت أقوم بجريمة؟ أم ماذا ، يتساءل بحرقة مضيفا بقوله : تطورت المسألة مع والدي إلى العقاب والضّرب والشّتم، وتم سجني بغرفة حمام {بَلْدِي} ليلة كاملة بعد أن علّق جسدي الطريّ، ورأسي متدليا لأسفل وقدماي مرفوعتين لأعلى السقف. كل هذا لأنني اخترت الموسيقى وفضلتها عن الدراسة.
– بوشعيب و أحلامه الموسيقية
يحكي عن شغب الطفولة وعشقه للموسيقى قائلا : تغيبت عن الفصل الدراسي أربعة أيام متتالية، وكان جميع التلاميذ يتنبؤون لي بحصة تعذيب جهنمية من طرف معلم اللغة العربية أبا تراب وكذا معلمة اللغة الفرنسية مَدَامْ مُنِيرْ.
وعن تفاصيل الحكاية يقول : رغم أنني كررت في المستوى الخامس ابتدائي ثلاثة سنوات متتابعة، كان والدي يقلّني على متن سيارة الأجرة الصغيرة كل صباح لباب المدرسة ثم ينطلق للعمل، وكنت عوض أن أدخل للفصل أذهب إلى جانب الشاطئ مختبئ بين الصخور البحرية لأمارس عشقي وهوايتي للعزف على آلتي الموسيقية القريبة من قلبي {النّاي} إلى حدود مغادرة التلاميذ للفصل وأعود للبيت وهكذا كل صباح ومساء.
– إصرار الطفل على اختيار الفن والموسيقى ورفضه للدراسة
بعد عودة التلميذ بوشعيب للفصل لاستئناف دراسته، سأله المعلم أبا تراب عن سبب غيابه أربعة أيام متتالية وكان الطفل بوشعيب قد وضع سيناريو محكم انطلى على المعلم حيث قص عليه قصة من نسج خياله بقوله : كعادة والدي أقلني على متن الطاكسي إلى المدرسة، وفي الطريق امتطى معنا زبونا سيارة الأجرة. كان رجلا بلحية بيضاء، لكننا فوجئنا بموته بعد أن شهق شهقة مميتة وهو يصيح مثل صوت الدجاجة (قُوقُوووعْ… قُوقُوووعْ.)…وهكذا انشغلنا بتحقيق الشرطة مدة أربعة أيام مع والدي ومعي كل يوم إلى أن تم أغلاق الملف. هذا ما حكاه التلميذ بثقة في النفس
كانت القصة المختلقة مؤثرة وحزينة، مما دفع بالمعلم أبا تراب إلى النداء على معلمة اللغة الفرنسية (مَدَامْ مُنِيرْ) للإستماع إلى الحكاية على لسان التلميذ بوشعيب الذي كسب تعاطفهما ولم تتم معاقبته.
لكن ما لم يقع في الحسبان أن حبل الكذب قصير وسيتم اكتشاف الحقيقة بعد أن التقى المعلم أبا تراب بوالد بوشعيب في اليوم الموالي على متن سيارة الأجرة وقدم له العزاء معلنا تضامنه معه في المصاب الجلل وما خلفه ملف موت الرجل المفاجئ من مشاكل أمنية واجتماعية، “فوجئ والدي (الطْرَابْشِي) بالقصة المختلقة التي رواها له المعلم أبا تراب، حيث اكتشف غيابي عن الدراسة مدة أربعة أيام .
في هذا السياق يستحضر الطفل بوشعيب أنه في الحصة الدراسية الموالية لاكتشاف كذب قصته المختلقة من طرف معلمه حيث قال: دعاني المعلم أبا تراب للوقوف أمام التلاميذ في الفصل، وطلب مني أن أُمَثِّلَ كيف حدث موت الرجل على متن طاكسي والدي، وأن أصيح مثل الدّجاجة مقلّدا شهقة موته… وكنت أنفذ ما يطلب مني.
بعد حصة تمثيل الحدث طلب منه المعلم أبا تراب أن يتمدد على مكتبه من أجل أن ينال عقابه بالعصا، لكن التلميذ بوشعيب خاطب أبا تراب للحسم في اختياره قائلا: لا يمكن لك أن تضربني وتعاقبني. لقد قررت أن انفصل عن دراستي، لأنني أحب الموسيقى، ولا أحد يمكنه أن يغير من عشقي لها أو يمنعني من ممارسة هوايتي الفنية.
– تعذيب وعقاب وإصرار على الموقف
موقف التلميذ بوشعيب من الدراسة وإعلانه عن حبه وعشقه للموسيقى أمام معلمه وكذلك أمام والده في البيت تسبب له في عقاب بدني ونفسي وصفه بما يلي: (في ليلة نفس اليوم، علقني والدي مثل خروف العيد، وانهال علي بالضرب بواسطة حزام جلدي وأنا أتألم وأبكي من شدة التعذيب، وسجنني في الحمام وأغلق علي الباب ليلة كاملة”. ويمضي موضحا بقوله: “لم أجد سوى تضامن زوجة أبي التي كانت فعلا تشجعني على المضي قدما في ممارسة عشقي للموسيقى لأنها كانت شاعرة ومثقفة وكانت تخاطب والدي بقولها: “اترك الطفل وشأنه، هذا اختياره الشخصي، فالموسيقى مهمة في حياة الإنسان والفن مثله مثل كل المهن”.
في اليوم الموالي تم تحرير الطفل بوشعيب من الحمام السجن لكنه لم يتزحزح عن موقفه حيث خاطب والده بالقول: “لن أترك الموسيقى ولو أزهقت روحي، لن أفارق الموسيقى. سأعيش بها وسأضمن بها مستقبلي وأضمن لك بها حياة سعيدة”.
وهكذا أصبح بوشعيب الجديدي فنانا كبيرا كما حافظ على هذا الثراث الفني للغناء والموسيقى حتى ولنقول أصبح مورثا وسط عائلته .