أسطورة سيزيف ومعنى الحياة

تقديم: باحثة الفكر الفلسفي ـ زينب خلوق
منذ القديم، كان الإنسان يعيش تحت وطأة اللاجدوى في معناها البدائي الذي كان همه الوحيد هو أن يروي ظمأه ، سيما أن الحياة حينها كانت مرتبطة بالأكل والشرب، لئن صار الإنسان يتساءل عن تلك الأسئلة الأولية: من أنا؟ وكيف وجدت؟ ولماذا؟ حتى صار يفكر حينها عن سبب عيشه انطلاقا من إسقاط التساؤلات حول ذاته.
هذا الكائن الذي اتخذ مسارا طويلا في البحث والمعرفة عن نفسه انطلاقا من الكون والطبيعة، فقد كان يربط وجوده بالحياة الإجتماعية للأفراد الذي كان محيطا بهم ، حتى جعل من نفسه كائنا يتساءل في كل شيء، هذا التساؤل الذي سماه البعض بإخضاع العقل إلى التفكير والإنشغال بالقضايا المجتمعاتية ولربما حتى السياسية التي كانت عبارة عن سلطة القوي على الضعيف، هذا التفسير الذي كان يخضع إلى نظام أفراد همهم الوحيد هو الوصول إلى السلطة ـ بينما الأخر أي الغير فقد كان يريد فقط أن يشارك في الحياة وأن يستمتع بالفضائل النبيلة. عله يجد مأوى يأويه ويحتويه، حيث كان هذا المأوى عسيرا على البعض ـ فالحياة بالنسبة لهم تتطلب مجهودا شاقا كي يصل إلى المعنى داخل كينونة الحياة.
التساؤل عن المعنى أو اللامعنى في” أسطورة سيزيف ” هو في حقيقة الأمر تساؤل عن حياتنا نحن ـ الحياة التي عشنا في أحضانها كل الرضى والتفاؤل، بمرها وحلوها، بقبحها وجمالها، لم نحاول قط يوما أن نضع أنفسنا في هذا المعنى داخل فجوة الحياة، هذه الهوة الطبيعية التي نقبع داخلها تسحب معنى اللاجدوى حتى في التساؤل عن مصيرنا.
سيزيف يضعنا في السياق ويسألنا عن المصير وعن عبثيته التي جعلته يدرك معنى للحياة.
سيزيف البطل الذي تمرد على الألهة وأدعى قوته أمامهم وعدم الإنصياع لأوامر الإله زيوس كبير الألهة فقرر معاقبته باللاجدوى. و هو أن يحمل صخرة كبيرة من أسفل الجبل حتى يصل إلى أعلاه ، فإن وصل للقمة تدحرجت منه ثانيةً لتستقر بقاع الوادي ، فيعود مرة أخرى إلى رفعها للقمة ويظل يعمل هكذا دون هدف حتى الأبد ، ليكون بذلك ما يحدث لسيزيف هو رمزًا للعذاب الأبدي الذي لا يتوقف.
هذا العقاب كان بمثابة درس لسيزيف، درس لمعنى الحياة ومصيره الأبدي تجاه حمل الصخرة إلى أعلى القمة ، ما إن يفشل سيزيف عن إيصالها إلى القمة حتى يعيد ذلك كل يوم، كأنه يحاول أن يخبرنا أن الحياة قاسية ولا بد وأن تقعوا وتنهضوا كل مرة أحسستم بأنكم ستصلوا، مواجهة المصير هذه هي البحث عن معنى الحياة لأناس مارسوا العبثية فكان مصيرهم عملية التكرار هذه ـ ذلك الروتين اليومي الذي يسافر بنا كل مرة نحو عالم يعيد نفسه بنفس التفاصيل التي بدأناها أول مرةـ سيزيف هذا يلقننا درسا في الوجودية وحقيقتها من خلال مواجهة مصيره. هذا التحدي الذي وضعنا في سياقه سيزيف يدل على أن عملية الإنتحار لا تساوي شيئا سوى فقدان المعنى والهدف من الحياة. يقول ألبير كامو” الإنتحار ليس حلا مناسبا أبدا، لأن قتل نفسك ينفي المشكلة فقط بدلا من حلها”(1) ، والملاحظ أن فلسفة ألبير كامو قدمت دلائل على إعادة النظر في كنه الحياة وأغوارها، فبدلا من عزاء أنفسنا بالأمل في عالم أفضل، علينا أن نثور على حكوميتنا ونخلق فنا يعكس حالتنا الإنسانية.
لكي يظفر المرء بحياة استثنائية ينبغي أن يعاني مثل ما عانى سيزيف في مواجهة مصيره المجهول. فالحياة التي أومأت إلينا بإشارات الخزي والمدلة ، الحب والسعادة، الأمل والتفاؤل، فهاهي الأن جاءتنا بشخصية سيزيف كي تربي فينا معاني الإستمرارية وبعث الأمل من جديد. هذا الأمل الذي يعبق منه رائحة الصبر، فالذي يعلم بقيمة الكلمات يدرك معنى الحياة عند سيزيف، التي تعري ذلك التوجس والخوف من مناحي العيش ومدى إرتباكنا من الإمتحانات التي نمتحن بها في حياتنا. كل هذا الضجر بالإصطباغ بالدهشة خلف في أعماقنا العديد من التساؤلات التي كانت عالقة في الذهن.
واقعنا يفتقر لهدف نهائي محدد، هذا هو القدر الذي حكم علينا. ففي هذه الأسطورة تروي لنا هذا الواقع البائس الذي ينتظرنا مذ قررنا العيش على أرض هذا العالم. فالواضح إذا أن سيزيف لم يكن ليستعرض عبثية وسخافة الوجود الإنساني كما يبدو للوهلة الأولى ـ بل يتجاوز ذلك ليقدم نقدا للإنسان الحديث المفتون بالعقلانية والموضوعية في التعاطي مع الحياة.
يقول ألبير كامو” يجب علينا اليأس من إمكانية إعادة بناء السطح المألوف الهادئ الذي يمكن أن يهبنا راحة القلب”(2) ، يميل بنا ألبير كامو إلى صنع عبثية من نوع خاص أساسه العيش بأسلوب اللاجدوى ـ هو يقر أن هذا ليس توضيحا للوجودية بالرغم من أن كتاباته دليل على أنه يمارس فن الوجود، فحتى الهروب من التناقضات نفسها ينفي حقيقة الوجود نفسه، فمن ذاك التحدي ومواجهة المصير كلها معاني تدل على أن هناك معنى للمعنى. أي أن ذلك التصدي وراء قانون الحياة وممارسة العبث بطريقة تكسر الإنتحار وتجعله طريقا نحو الوصول إلى الهدف المبتغى .
يقول ألبير كامو” أنا أعرف أن الفكر قد دخل إلى هذه الصحارى بالفعل، وهنالك وجد خبزه، وهنالك أدرك أنه كان قبل ذلك يعيش على الأشباح وبرر ذلك بعض أشد الأفكار إلحاحا على التأمل البشري” (3)ـ عل هذا يضمن مسيرة الإنسان حسب ألبير كامو الذي خضع نفسه إلى معالجة إشكالية الإنتحار في وضع يكون فيه المرء غير قادر على مواجهة المصير. فسيزيف الذي ظل يحارب ويناضل من أجل إنقاذ روحه من الهلاك، من أجل أن يبين للعالم أن الحياة ليست بتلك البساطةـ فمواجهة الصعاب تحتاج إلى نفس تخالطها الدهشة والخوف، الشجاعة والقوة، المروءة والقيادةـ القيادة التي ظفر بها سيزيف بحيث أنه قد كان قائدا لنفسه، القيادة إلى أبعد حدودها جعلت من سيزيف رجلا للأسطورة.
سيزيف أبان على أن الحياة أثمن بكثير والإنتحار ينقص من ماهية الوجود وينفي الفكرة التي نحارب من أجلها، فمن تحدي بلاء الحياة من أجل البقاء ، إلى بناء إنسان جديدـ قوي ، يضيء باحتدامه للأخرين عالما استثنائيا بالرغم من بشاعة المنظر وقساوته. البير كامو يقترح نهاية مختلفة للأسطورة بحيث يخبرنا في ٱخر المطاف أن نتخيل سيزيف سعيدا وهو يواجه مصيره. وبهذا نكون قد عملنا على إقصاء اللامعنى وعملنا على إيضاح معنى المعنى للحياة. الهوامش: 1- ألبير كامو – أسطورة سيزيف – نقله إلى العربية -أمين زكي حسين – منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت- لبنان. ص:14. 2- المرجع نفسه ص:27. 3- المرجع نفسه ص: 31.