ثقافةكتاب و آراء

التراث واشكالية قراءته محمد عابد الجابري نموذجا

مرسلة 

التراث الفلسفي وإشكالية قراءته

” محمد عابد الجابري” نموذجا

تقديم : باحثة الفكر الفلسفي” زينب خلوق”

تقديم عام:

منذ بدء ما يسميه المؤرخون بعصر” النهضة الحديثة “والتراث يحتل مركز الجدل والنقاش الثقافي في ساحة الفكر العربي، ولا ريب في أن هذا الجدل كان قائما منذ قرون مديدة خاصة حين تدرجت مفاهيمه من فيلسوف لأخر، إذ أن إشكالية التراث عرفت تفسيرات تتضمن قضية العلاقة بين الماضي والحاضر، ومن الواضح أن التراث حسب منظور الفلاسفة لا يصبح فاعلا في فكر الإنسان إلا حينما يكف على أن يكون مسألة ماض وانقضى ; أي حينما يصبح مسألة مصير ومستقبل، ولا يزال عالمنا العربي وربما الإسلامي الذي استعرض مسارا طويلا وصنع منه التراث وصنع واقع الأمة اليوم، عرف جدلا كبيرا بين المؤرخين والمفكرين الكبار اللذان عملا على إبراز مكانة التراث في الفكر العربي برمته حتى أصبح موضوعا يتناول قضايا واستشكالات عديدة.

التراث في حمولته المفاهمية يعني العودة إلى التاريخ القديم، الذي خلفه الأجداد من معتقدات لربما شكلت لنا عائقا اليوم. فهل من الممكن أن نتخلى عن التراث؟ هل من المعقول أن تكون هناك قطيعة معه؟ لئن صار هذا الطرح يتساءل في كل نقاش حتى صرنا نعيش اشكالية ضبابية في فهمنا للتراث، هذا التراث الفكري الذي اجتاحنا نحو التصدي إلى مرتكزاته وأساسياته التي تحتاج إلى فهم للمقروء أولا ، وثانيا إلى التفكير في نوعية التراث الذي نناقشه. ففي مستهل هذا المقال سنشرع إلى الوقوف عند رؤى أحد أعمدة الفكر الفلسفي للتراث ” محمد عابد الجابري” (1936-2010 ) الذي يعد موسوعة لنقد العقل العربي، هذا الموسوعة تكاد أن تكون أكثر إثارة للنقد والترحيب خلال الخمسين سنة الأخيرة لأنها رفعت من المستوى الحواري للتراث الإسلامي إلى النقد الفلسفي العميق، ولكن لأن نظرة الجابري قدمت تحديا مزدوجا لمشايعيه كما لمخالفيه.

لطالما السؤال الذي يعيد نفسه ما التراث؟ سنجعل منه تقسيما جابريا يقودنا نحو الفهم والاستيعاب الفلسفي نحو تراثية التراث ومعالمه، نحو رموز التأويل التراثي. سيسافر بنا هذا المقال إلى تحديد الإرث التراثي للعقل العربي من المقدسات التي سلم بها العرب.

سنبدأ بأول مصدر للجابري الذي يعتبر من أهم المصادر التراثية للجابري ، هذا المشروع الذي عنونه محمد عابد الجابري ” نحن والتراث” سنشتغل على مضامينه وأهم المعطيات التي وقف عندها الجابري وتساءل عنها.

أولا: أي تراث؟

التراث الذي كان ومازال الحداثيون يحاولون أن ينعتقوا من فكرة المقدس للتراث الذي جعل فئة كبيرة من المستشرقين يسلمون بفكرة التراث، على أساس أنه موروث ديني على حد تعبير ” كل موروث له وارث” ، وهذا الذي شكل تضارب في الرؤى المجتمعاتية للتراث الذي يترجم فقط من الناحية الدينية. في حين أن المسألة لا تقتصر فقط على العقل الديني للتراث. وهذا يعد من أحد الأسباب الذي جعل الجابري يدخلنا في سياق ” نحن والتراث” فمن نحن ومن هو التراث؟ فإن فككنا العنوان من ” نحن” بمعنى العالم العربي و” التراث” الذي نتواجد فيه و يتعايش معنا. التراث الفكري الذي يحمل عدة إبستيمات إيديولوجية من صور مختلفة. فهو السيرورة التاريخية التي تعيد نفسها.

محمد عابد الجابري في حقيقة الأمر كتابه هذا راجع إلى عدة عوامل التي طبعا جعلتنا نتساءل لما بالضبط الجابري وضعنا في لجة هذا التراث بالتحديد؟ ولما لم يضعنا في مشروع أخر؟ وما الغاية للرجوع إلى التراث ؟ والراجح أننا نجد في سنة 1971 قد تمت مناقشة الدكتوراه لمحمد عابد الجابري لأطروحة” القراءة الخلدونية والعصبية” الذي أخذ من أغوار هذه الدراسة عدة مؤشرات جعلته يصدر بعدها كتاب ” نحن والتراث” سنة 1980 الذي يعد عبارة عن دراسات مفرقة، بمعنى أنه كان عبارة عن مقالات تم جمعها في هذا الكتاب ” نحن والتراث” كأنه كان ليضطر أن يضعنا في السياق، في كل دراسة على حدة.

ثانيا: قراءة محمد عابد الجابري للتراث

يقول محمد عابد الجابري في كتابه ” نحن والتراث”، ” نحن لا نمارس النقد من أجل النقد بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي” (1) ، والراجح أن هذه النظرية جاءت كرد توضيح ممارسة الجابري منهج النقد من أجل البناء الفكري، من أجل التحرر من المعتقدات التي تربى المجتمع العربي على مضامينها فجعلها محلا للتقديس كأنها نصوص مقدسة وتفاسير قرطوسية مؤلهة.

الآن ، بعد أن سرنا بالموضوع، أو سار بنا في سياق يبرز من جهة قيمة التراث عند الجابري الذي قسمه إلى ثلاثة قراءات:

أولا: على المستوى السلفي الذي يقول فيه موضحا” التيار السلفي في الفكر الحديث والمعاصر، التيار الذي انشغل أكثر من غيره بالتراث وإحياءه واستثماره في إطار قراءة إيديولوجية ساخرة، أساسها إسقاط صورة المستقبل المنشودة للمستقبل الإديولوجي على الماضي ثم البرهنة انطلاقا من عملية الإسقاط هذه على أن ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل”(2). يبدو للجابري في هذا النقد السلفي أن هناك غياب للروح النقدية، أي أن التيار السلفي أحيا التراث انطلاقا من التراث نفسه، إعادة التراث دون النبش في الماضي والحفر في محتوياته، بمعنى أنه غير قابل للتجديد والتأسيس. على غرار ذلك يصرح الجابري” إن القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية وبالتالي لا يمكن أن تنتج إلا نوعا واحدا من الفهم للتراث هو : الفهم التراثي للتراث ، يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه لأنها: التراث يكرر نفسه” (3) ، ومن هنا نستنتج أن هناك فقدان للنظرة التاريخية للتراث. فهي تقوم على منهج يعتمد بالفهم التراثي للتراث.

ثانيا: على المستوى الماركسي يقول الجابري” إن الليبيرالي ينظر إلى التراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحيا حاضر الغرب الأوروبي، فيقرأه قراءة أروبية النزعة أي ينظر إليه من منظومة مرجعية أوروبية ولذلك فهو لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي” (4). إذ أن هذه الصورة الماركسية التي تعتمد هي الصورة المادية في تعاملها مع التراث وهي صورة إيديولوجية لفهم التراث وتشتغل بدورها ضمن الرؤية المركزية الأوروبية.

ثالثا: القراءة العلمية الإستشراقية: يقول الجابري ” إن الرؤية الإستشراقية تقوم من الناحية المنهجية على معارضة الثقافات لقراءة تراث بتراث ومن هنا المنهج الفيلولوجي الذي يجتهد في رد كل شيء إلى أصله وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الإسلامي فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في رده إلى أصوله اليهودية والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية” (5) ، تمتاز هذه الصورة حسب الجابري بتكريس النزعة الإستعمارية والغض من قيمتها على المستوى المعرفي والعلمي وترجيح الكفة العقلية الألية.

ليس ثمة شك إذا في كون أن تساؤلات الجابري حول التراث على هذه المستويات الثلاثة من قبيل:

ـ كيف نستعيد مجد حضارتنا ونحيي ثراثنا؟

ـ كيف يمكن أن نحقق ثورتنا وكيف نعيد بناء تراثنا؟

ـ كيف نعيش عصرنا؟ كيف نتعامل مع تراثنا؟

فالتساؤل الأول هو تساؤل سلفي . أما التساؤلات الثانية فهي تساؤلات ماركسية ، في حين أن التساؤل الأخير هو تساؤل إبستمولوجي معاصر. توحي لنا هذه التساؤلات إلى أنواع القراءات للتراث ، فقد عمل الجابري على نقدها وعرضها في مايلي: بالنسبة للقراءة السلفية التي انتقدها الجابري ليؤسس منهجه الجديد ، فاعتبر أن الصورة هي الطريقة التقليدية التي ترتكز بالتعامل التقليدي مع التراث. على حد تعبير الجابري” الفهم التراثي للتراث”، أما فيما يخص القراءة الثانية التي تعد قراءة ماركسية التي تمثلت أساسا في مدى تعاملها مع التراث بصورة إيديولوجية لفهم التراث بمعنى أنها تعمل حسب تعبير الجابري على قراءة أوروبية النزعة، فأخذت هذه القراءة حيزا للنقد من لدن الجابري لأنه اعتبرها رؤية نزعوية لها خلفية مرجعية للتراث. أما القراءة الأخيرة ” القراءة العلمية الإستشراقية ” التي تعمل على تخطي قراءة التراث بالتراث وترسم لنا حسب الجابري جدار النزعة العقلانية فتربي فينا ذلك الحس المعرفي والمنهجي للتراث.

ثالثا: الرؤية الجابرية للتراث

تعد الرؤية التراثية للتراث عند الجابري تلك الرؤية أو الصورة النهضوية التي أعادت إحياء التراث وذلك من خلال الإنطلاق من التراث نفسه دون القطيعة معه، القطيعة التي استمدها الجابري من باشلار التي تعود في أصلها إلى قراءة باشلارية للتراث من زاوية التأويل النقدي للتراث.

بين التراث المنتمي لغة وثقافة للجزيرة العربية وبين الحضارة الحديثة، رأى الجابري هوة كبيرة يصعب ردمها إلا بتجاوز الكثير من الموروث. بالتركيز على أدوات الآخر الغربي كجسر للنهوض مع الانتباه على بعض الأطروحات التراثية التي احتفى بها الجابري ورأها سابقة لزمانها. ما جعلها في نظره لحظة تنوير ضائعة يجدر استيرادها والبناء عليها. ولهذا فهو كان يريد أن يقطع مع أنواع وأشكال القراءة الرثة التقليدية المنغلقة مع التراث.

ففي إحدى ثلاثياته التي اشتهر بها، قسم الجابري أنماط المعرفة إلى ثلاثة أقسام: البيان وهو ما تمحور حول اللغة والمنطق والبرهان المكافي للتجريب والعرفان كما هو عند الصوفية وهو أكثر ما انتقده مبينا مناقدته للنهضة القائمة على الوعي. فالجابري هنا قد وصف العقل الغربي بأنه عقل برهاني أي تجريبي واقعي ، ديناميكي، في حين أن العقل العربي هو عقل بياني يتمحور حول اللغة.

يقول الجابري” لا يمكن تبني التراث ككل، لأنه ينتمي إلى الماضي ولأن العناصر المقومة للماضي لا توجد كلها في الحاضر، وليس من الضروري أن يكون حضورها في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر, وبالمثل لا يمكن رفض التراث ككل للسبب نفسه ، فهو إن شئنا أم كرهنا ، مقوم أساسي من مقومات الحاضر، وتغير الحاضر لا يعني البداية من الصفر” (6).

كثيرا ما تطرح إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، على أنها مشكل اختيار بين النموذج الغربي والتراث بوصفه نموذجا أصيلا، إذ نرى أن الجابري قد عمل على إعادة بناء موروثنا الثقافي ” التراث”، وذلك بالمزاوجة بين النموذجين الغربي أو العربي الإسلامي الأصيل للانسجام مع طموحاتنا للتقدم والحداثة.

فالتراث يعد هاجسا أساسيا عند الجابري ” فقد كان يريد أن نملك التراث لا أن يملكنا كما هو واقع الحال” (7) بمعنى أنه كان يريد من هذا التراث أن نملكه بأدوات معرفية صحيحة لا بأدوات قرطوسية مؤلهة ، إن صح التعبير مقدسة. في سؤاله عن الحداثة يقول ” سؤال الحداثة سؤال متعدد الأبعاد سؤال موجه إلى التراث بجميع مجالاته وسؤال موجه إلى الحداثة نفسها بكل معطياتها وطموحاتها… إنه سؤال جيل بل أجيال… سؤال متجدد بتجدد الحياة” (8) ، ففي خضم هذا السؤال الحداثي يتضح أن علاقة التراث بالحداثة هي علاقة ترابط وتزامن في الوقت ذاته فهي جزء من التراث. على حد تعبيره ” الحداثة من أجل الحداثة لا معنى لها ” (9) ، لأن طرق وأساليب تعاملنا مع التراث تنطلق أساسا من الحداثة.

ليست هناك ثمة شك في أن الجابري كان يريد أن ينقذ العقل العربي من التفتت إلى نوع من الوحدة بمرجعيته ، ربما التقطها من صورة المجتمع الغربي، فأراد بذلك أن يطبق فكرة التحرر من التراث بأساليب حداثية غربية دون أن تكون هناك قطيعة. وهذه حقيقة لا غبار عليها لأن فكرة التجاوز ليس معناه الانفصال عن التراث وإنهائه، وإنما تأسيسا للتراث يتطلب الإنطلاق منه وإبعاد القداسة عنه وهدم الأفكارالسائدة للتراث بمعنى التقييم وذلك بتنقيته من الشوائب والأخطاء السابقة، وإعادة البناء من أجل التجديد بثقافات جديدة وأفكار جديدة ، وبأليات جديدة . التراث بلون جديد معاصر يتماشى مع متطلبات العصر.

ـ التقييم التراثي للجابري

يقول الأستاذ السيد رضوان ” جاءت سلسلة نقد العقل العربي، لتحريرنا من التراث هذا هو دافعه الأساسي، دافعه ثوري ولكنه حزبي، يريد الوصول إلى الجمهور. فكان أسلوبه، أخف وأسهل وأقرب من الجمهور من أسلوب أركون والعروي. واليسارين المغاربة الأخرين.”10 ، فعندما كتب نحن والتراث كان قد تكون في ذهنه مشروع كيف يمكن تحرير العقل العربي من الموروث؟ وهو يقصد الموروث الديني ولكنه لا يستطيع أن يقول ذلك لأنه يريد أن يصل إلى الناس فدائما كان الجمهور نصب عينيه على حد تعبير “السيد رضوان”.

مشروعه من حيث العمل عليه، من حيث المادة التي اشتغلت فيه، من حيث البنية التي أراد أن يقيمها حسب “السيد رضوان هذا جهد هائل ، وأنه شمل النواحي الثقافية والفكرية.

يقول الدكتور هشام غصيب ” يحفر في التراث العربي الإسلامي، نجد في الواقع يفعل ذلك بطريقة تكاد أن تكون قصة بوليسية ويتساءل دوما ويجرب هنا، ويخطئ ويتراجع، يجرب طريقة أخرى. هذه الطريقة في الواقع مثيرة حثما، كأنه سحر منذ التمانينات وهو يسحر أجيال من القراء العربي” 11 . ويرى الأستاذ ” حسن نجمي أن المرحوم محمد عابد الجابري لم يضع البديهيات، المسلمات الإسلامية التي يؤمن بها المسلمون موضع المساءلة، لم يطرح سؤالا حول الوحي، لم يطرح سؤالا حول القرآن هل هو نص دنيوي أو نص موحى به؟ رباني، لم يشغل نفسه بهدف الأسئلة لأن كل القضايا التي اعتبرها إيمانية لا تلزمه، طالما أن الناس يؤمنون بهذه البديهيات. لم تكن هناك حاجة ليطرح هذا السؤال، كما فعل مثلا زميله ” محمد أركون” الذي اشتغل بالقضايا اللاهوتية. عابد الجابري اشتغل على أنواع التفكير حول الإسلامي، ولذلك كان مشروعه بالأساس يريد أن يفهم البنيات العميقة لدى العقل العربي وكيف تعامل مع الإسلام دينا ودنيا”12.

هكذا بجرة قلم، يمكننا هذا التقييم التراثي للجابري إلى مجموعة من المخرجات والتي تسلم غالبا إلى حقيقة واحدة ، وهي أن المرحوم عابد الجابري قد كان موجها وثوريا وناقدا للعقل العربي. بحيث أن في جل كتاباته قد فتح المجال للعمل البحثي في البحث عن مفهوم العقل في التراث الإسلامي. وهذا كان له الفضل الكبير في دعوة العالم العربي نحو التساؤل والبحث عن إبستمولوجيا التراث.

ـ نقد العقل العربي “جورج طرابيشي” نموذجا

جورج طرابيشي الرجل السوري المترجم لعدة أعمال فلسفية، لسارتر وهيغل وفرويد و دو بوفوار وغيرهما، حتى ناهزت ترجماته المائتي كتاب. يوصف طرابشي تارة بالقوة وتارة بالثوري ومرات بالوجودي وأحيانا بالماركسي.

لطالما المفكر جورج طرابيشي كان صديقا للجابري لصداقة أخوية تحولت إلى عداوة يرجع أصلها في انتقاد محمد عابد الجابري لإخوان الصفا، الذي اعتبر فيهما أنهم هم الذين أجرموا والمسؤلون الحقيقيون عن استقالة العقل في الإسلام، بالرغم من أن ذكريات طرابشي مع إخوان الصفا لم تكن بهذه الصورة السوداوية التي رسمها الجابري. وبما أن جورج طرابيشي لم تكن له رسائل حول إخوان الصفا كي يدافع انذاك عن فكرته فتطلب ذلك وقتا طويلا في البحث. ففي رحلة البحث التي ناهزت تقريبا وقتا طويلا بعد أن عثر على أحد الرسائل لإخوان الصفا التي هي كالتالي” اعلم يا أخانا في الروح أنك قبل أن تبدأ في قراءة ما نريد أن نكتبه لك في هذه الرسائل عليك أن تبدأ بعلم المنطق لأنه هو مدخلنا إليك وبدون منطق لا يمكن للبشر أن يتفاهموا، وتوفيرا لوقتك سنبدأ بشرح المنطق كما صاغه رئيسنا الكبير ” فخصصوا على حد قول طرابيشي أول ثماني رسائل من رسائل إخوان الصفا لشرح كتب المنطق كتابا كتابا. ثم لما انتهوا من شرح كتاب منطق أرسطو قالو ” لقد تقدم بنا الكلام عن المنطق يا أخانا، ولكن المنطق منطقان: فهناك المنطق المنطقي والفلسفي الذي حدثناك عنه في أول رسائلنا، وهناك المنطق الكلامي والإنسان تميز عن الحيوان بالمنطق” ويقولون ” لولا الكلام لما صار الإنسان إنسانا وتميز عن عالم الحيوان… إلى غير ذلك من الرسائل التي حملت في مجملها بعدا فكريا يصبو نحو ضرورة المنطق وعلم الكلام والتصوف. وهنا يبرر طرابشي موقفه ويستشهد برسائل إخوان الصفا ويقول ” وهذا هو الشاهد الذي استند عليه الجابري في قوله إن إخوان الصفا كانوا أعداء للمنطق ! وهنا شعر طرابيشي بخيبة أمل على حد تعبيره وأنه قد شعر أنه قد سقط من شاهق. وأنه قد طعن في الظهر لدرجة أنه قد تساءل،: هل من الممكن أن يكون الجابري قد زور الشاهد إلى هذا الحد؟ ولما لم يفتح رسائل الصفا من أولها ويقرأ مديحهم الهائل للمنطق والعقل وقام باستغلال ما قالوه عن المنطق الكلامي ليقول إن هؤلاء ضد المنطق؟

ومن هنا يبدأ جورج طرابيشي بمراجعة كل الشواهد التي اعتمدها الجابري في كتبه ليرد عليها بعد أن قال ” إنني قد وجدت معضمها شواهد مزورة أو مقطوعة من سياقاتها أو مأخوذة من قواميس ومعاجم كالحال مع المفاهيم الفلسفية التي يقدمها من أمهات الكتب”

موضحا ذلك أنه قد اعتمد على كتيب صغير ليقدم شواهده عن “روسو ” و “ديكارت” و “روسو” التي أخذها من كتاب صغير لشرح المفردات الفلسفية. في حين أنه قد أوحى لقارئه أنه قد قرأ لفولتير وغيره ولم يشر قط إلى أنه قد أخذها من هذا المرجع الصغير. ناهيك أنه قد وقع طرابيشي على عشرات الأمثلة من هذا القبيل. ومن هنا بدأ بمشروعه الذي أسماه ” نقد نقد العقل العربي فكان ردا وانتقادا للجابري.

يبدأ نقد جورج طرابيشي في كتابه ” نقد نقد العقل العربي” بقول في أول صفحات كتابه” لامني أكثر من صديق وقارئ على كوني وضعت نفسي في مأزق عندما كرست كل هذا الوقت نحوا من خمسة عشر عاما، وكل هذا المجهود أربعة مجلدات حتى الان، لأرد على مشروع الجابري في ” نقد العقل العربي” بدلا من أن أنصرف إلى إنجاز مشروع شخصي في قراءة التراث العربي الإسلامي” 13.

فيرى جورج طرابيشي أن مشروع الجابري قد وضعه على أسس غير دقيقة أو علمية لبناء هرمه النقدي للعقل العربي، الذي يرجع بالأساس إلى قسمة العقل العربي إلى العقل المشرقي والعقل المغربي مع تغليب المغربي على المشرقي ، فابن رشد أفضل من ابن سينا والفارابي وابن حزم والشاطبي أفضل من الشافعي والغزالي ، وابن باجة أفضل من الفارابي.

خاتمة

وأخيرا، أمكن القول أن مشروعية الجابري قد بينت للعقل العربي عن مدى أهمية التراث في الفكر الفلسفي اليوناني والفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي الحديث، هذا المشروع الذي سافر بنا نحو أسلوب الجابري الباشلاري مع القطيعة والأسلوب الرشدي في التوفيق بين العقل والنقل، والاهتمام الشديد بما خلفته الحضارة الغربية للتراث بأساليب حداثية التي استغلها الجابري لبناء مشروعه التراثي، وهذا راجع كما أسلفنا الذكر إلى بحثه الأول الخلدونية العصبية، التي أتاحت له الفرصة لكي يشرع في بحثه عن التراث كي يعيد مجد الحضارة وينقذها من التفتت. ولهذا فانطلاقته من التراث نفسه دون أن يحدث أية قطيعة فهي في حقيقة الأمر تستدعي للقارئ فهما سابقا للمقروء ، والمعني به دائما تفحص منطق الجابري ومناهجه العلمية. كي يسافر بالقارئ نحو الانعتاق من فكرة التقديس والتحرر من كل أنواع التراث التقليدي، فهذا معناه سفر طويل نحو الهدم من أجل التجديد. نحو النقد من أجل البناء. وهذا يتطلب العقلنة والموضوعية والمعقولية على حد تعبيره. أن يفهم التراث من زاوية الرجوع أو العودة إلى العقل وتحريره من الجمود والخمول والجهل الذي كان يعانيه في أزمان سالفة.

فالجابري مهما يكن وبغض النظرعن الانتقادات اللاذعة التي وجهت له من لدن معاصريه أمثال العروي وطه عبد الرحمان، عبد الإله بلقزيز، جورج طرابيشي، علي أومليل…) ، فيظل ذلك المفكر العظيم، الذي تميز بغيرته الشديدة عن العقل العربي وعن مدى بعده في التفكير العقلاني المنطقي الذي دعانا دائما في أشواط رحلته، نحو التساؤل هل من الممكن أن يكون التراث بالفعل نقطة انطلاق إيجابية لنهضتنا العربية الحديثة والمعاصرة؟

المصادر والمراجع المعتمدة

1ـ الجابري- تكوين العقل العربي- دار النشر المغربية – الدار البيضاء – الطبعة الثامنة – ص 7 / 8.

2ـ الجابري – نحن و التراث- قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي – الطبعة السادسة 1993- المركز الثقافي العربي- بيروت / الدار البيضاء –ص11.

3ـ الجابري – نحن و التراث- قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي – الطبعة السادسة 1993- المركز الثقافي العربي- بيروت / الدار البيضاء –ص13 .

4 ـ نحن والتراث، المرجع السابق ص13.

5ـ نحن والتراث ، المرجع السابق ص14 .

6ـ التراث والحداثة ـ محمد عابد الجابري ـ دراسات ومناقشات الطبعة 1 ـ بيروت ـ لبنان ، ص37 .

7ـ محمد الشيخ ـ محمد عابد الجابري ـ مسارات مفكر عربي، ص20 .

8ـ التراث والحداثة، محمد عابد الجابري ـ ص: 15.

9ـ التراث والحداثةـ محمد عابد الجابري ص: 17.

10ـ السيد رضوان ـ أستاذ الدراسات الإسلامية ـ مداخلة في برنامج لقناة الجريرة ” خارج النص” .

11ـ هشام غصيب ـ الرئيس المؤسس لجامعة الأميرة سمية ـ مداخلة في برنامج لقناة الجريرة ” خارج النص”.

12ـ حسن نجمي ـ باحث في التراث العربي ـ مداخلة في برنامج لقناة الجريرة ” خارج النص”.

13ـ نقد نقد العقل العربي ـ العقل المستقيل في الإسلام؟ ـ جورج طرابيشي ، الطبعة1 ـ دار الساقي 2004ـ بيروت، لبنان ص 9.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى